قصة سيدنا يوسف : الابتلاءات والمحن ، محنة البيع والشراء ، سجن سيدنا يوسف ، محنة الاسترقاق والاستعباد .
محنة بيع وشراء سيدنا يوسف :
بعد مشهد تنفيد المكيدة ، ستبدأ محنة أخرى مع سيدنا يوسف عليه السلام ، طور جديد من أطوار القصة ، حيث سيعثر عليه بعض السيَّارة "المارة "، بعدما ألقوا دلوهم لجلب الماء من الجُبِّ " البئر ، فإذا بساقيهم عوض أن يجد الماء ، وجد غلاماً ، ذا حسن وجمال ، فانبهر بجماله ، وبشَّر أصحابه بما رآه ، فانتشلوه من الجب .
بعدما انتشل المارة سيدنا يوسف عليه السلام ، أخذوه وأخفوا أمره عن الناس ، وذلك بهدف بيعه في أرض مصر ، كما تباع البضاعة ، وهذا ماجاء في قوله تعالى :" وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْلَمُونَ " الاية : 19. سورة يوسف .
محنة استرقاق و استعباد سيدنا يوسف :
بعد محنة الحبِّ ، تأتي محنة الاسترقاق والاستعباد ، حيث باعه المارة الذين عثروا عليه وأخرجوه من قعر الجبِّ ، بثمن بخس ، قليل ومنقوص ، وكانوا من الزاهدين فيه ، بقوله تعالى :" وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ " . الاية :20 من سورة يوسف .
وكان الذي اشتراه هو عزيز مصر لزوجته ، وطلب منها أن تكرم إقامته ، وتحسن مثواه ، لربما يقوما بتبنيه أو يكفيهم بعض المهمات إذا بلغ ، إذ لم يكن لهما ولد ، حسب ما تبينه الاية الكريمة 20 ، من سورة يوسف وقَالَ الذي اشتراه من مصر لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ".
وقوله تعالى :" وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ".
أي نعلمه و نوفقه لتفسير بعض المنامات ، والله سبحانه لا يعجزه شيء ، وأكثر الناس لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله .
وبهذا ترعرع سيدنا يوسف عليه السلام، بقصر عزيز مصر حتى بلغ منتهى قوته ، وشدته ، وأعطاه الله عز وجل حكمة و فقها في الدين .
لكن محن يوسف عليه السلام لم تتوقف هنا ولم تنته ، فبعد محنة المؤامرة والرؤيا ، وتنفيذ المكيدة، والاسترقاق ، تأتي محن أخرى وهذا ما سيظهره لنا المشهد الموالي والمتمثل في :
محنة يوسف مع امرأة العزيز :
بعد المحن المذكورة ، تأتي محنة أخرى مع امرأة العزيز ، التي تزينت و دعت يوسف إلى الفاحشة ، بعدما غلَّقت أبواب البيوت ، وأحكمت إغلاقها ، ويقال أنها سبعة أبواب ، ثم أمرته بقولها " هيث لك "، لكن سيدنا يوسف عليه السلام تذكر إحسان زوجها له ، فاستعاذ بالله من هذا الأمر فعصمه عنها . كما يقول عز وجل في كتابه الكريم :"وَرَاوَدَتْهُ التِّي هُوَ فِي بَيْتِهَا وَ غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ( 23) ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ " الايتين : 23 -24 ، من سورة يوسف .
فاضطر سيدنا يوسف عليه السلام ، إلى الهروب متوجها نحو الأبواب ، فحاولت منعه من الهروب ، فجذبت قميصه من دبر "أي من خلف " .
وعندما كان يتسابقان نحو الباب ، وجدا العزيز عند باب القصر ، ولكي تبرئ نفسها ادَّعت أن يوسف أراد بها السوء ، فكذَّب يوسف ما قالته ، وأخبر العزيز أنها هي التي دعته إلى نفسها .
فتأتي المعجزة بعد هذا الاتهام ، والتي تتمثل في أن يشهد أحد من أهلها ، وقد قيل أنه كان طفلا في المهد أنطقه الله ، فقال : إن كان قميصه شقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب ، أما إن كان ثوبه شُقَّ من وراء فهي كاذبة وهو صادق .
فلما رأى زوجها " عزيز مصر "، أن الثوب شق من الوراء علم بمكر زوجته ، وفهم أن الحقيقة قد ظهرت ، وهذا ما جعله يقول : بأن مكركن معشر النسوة واحتيالكن للتخلص مما دبرتن شيء عظيم ، ثم يلتفت إلى يوسف عليه السلام ، فيأمره بكتم الأمر .
بعدها ظهرت براءته ، ثم يلجأ ليخاطب زوجته الخائنة ، ويأمرها بطلب الاستغفار من هذا الذنب .( وفي هذا إشارة أيضا إلى أن العزيز كان قليل الغيرة ، فلم ينتقم مِن مَن أرادت خيانته ).
بعد محنة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز ، جاءت محنة أخرى مع الطبقة الحاكمة .
محنة يوسف عليه السلام مع الطبقة الحاكمة :
لم تتوقف محنة سيدنا يوسف عليه السلام عند واقعة امرأة العزيز ، بل شاع الخبر بين نسوة المدينة ، يفيد أن امرأة العزيز تطلب من خادمها أن يفعل الفاحشة معها، وأن حبه بلغ شغاف قلبها ، ولما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن لحضور وليمة أقامتها ، وقدمت لهن أنواعا من الفاكهة ، وأعطت لكل واحدة منهن سكينًا ، وعندما شرعن في تقطيع الفاكهة أمرت سيدنا يوسف بأن يخرج عليهن ، فلما رأينه أعظمنه ، ومن شدة دهشتهن من شدة جماله ، قطعن أيديهن ، وقلن أن هذا ليس بإنسان ، وإنما ملك من الملائكة .
بعد هذه المكيدة التي قامت بها امرأة العزيز للنسوة ، أحست بانتصارها عليهن ، ووجهت إليهن خطابا تعترف فيه بحبها ليوسف عليه السلام ، وبأنها من راودته عن نفسه لكنه امتنع ، و إن لم يفعل سيسجن ويكون من الأذلاء.
وعند سماع سيدنا يوسف عليه السلام الحوار ، الذي جمع بينهن ، أي بين امرأة العزيز و نسوة المدينة ، ناجا ربه ، كما جاء في كتابه العزيز : " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ "، سورة يوسف ، الايتين : 33 -34 .
فضل سيدنا يوسف عليه السلام كما تبين الاية الكريمة ، السجن على المعصية والاستجابة لما يدعونه إليه من الفاحشة ، فكانت الاستجابة من الله عز وجل ، فثبته على العفة وأبعد عنه مكرهن .
وبهذه الاستجابة ومناجاة الله وقبول دعوته ، سُجِن سيدنا يوسف عليه السلام ، ليكون قد اجتاز محنته هذه ليدخل محنة أخرى في السجن .
محنة سجن سيدنا يوسف عليه السلام :
كما رأينا فيما سبق محنة يوسف عليه السلام مع النسوة ، والتي أتبعها الله بالفرج ، تأتي محنة أخرى ، وهي محنة السجن ( والتي تبدو كأنها تذكرنا بمحنة الجب )، حيث أُدْخِلَ سيدنا يوسف السجن و سُجِنَ معه فتيان ، فرأى كلاهما رؤيا .
كانت الأولى : رؤية رأى صاحبها في منامه ، أنه يقوم بعصر العنب الذي سيصبح فيما بعد خمرا، بينما كانت الثانية : في أن رأى الثاني في منامه أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه .
فطلبا من يوسف عليه السلام ، تفسير حلمهما ، فيخبرهما بأنه لا يأتيهما طعام إلا وأخبرهما ببيان حقيقته قبل أن يصل إليهما ، مع تأكيده قبل التفسير أن ذلك ليس بتنجيم ، وإنما هو علم و وحي يوحى من عند الله . وقد خصه الله به ، لأنه من بيت النبوة .
قد يكون الهدف من إظهار أنه من بيت النبوة ، تدعيم كلامه ، ليثقا بما سيقوله ، وليؤكد أن هذا من فضل الله على الأنبياء وعلى الناس أيضا ، لكن بالرغم من هذا فأكثر الناس لا يشكرون فضله ونعمه عليهم فيشركون به ، فقوله كما جاء في القرآن : " يَا صَاحِبَيَّ السِّجْن أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ الوَاحِدُ القَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلهِ أمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون" الايات : 39 -40 سورة يوسف .
أي يا صاحبي " يامصاحبي في السجن "، مَن الأفضل ، هل الهة متعددة لا تستجيب لمن دعاها كالاصنام خير، أم عبادة الله الواحد الأحد المتفرد بعبوديته و المتفرد بالعظمة والإجلال ؟ وتلك الأسماء التي سميتموها أنتم واباؤكم ماهي إلا جمادات ، وما أنزل الله لكم في عبادتها من برهان وما الحكم إلا لله رب العالمين .
بعد دعوته مصاحبيه في السجن ، إلى توحيد الله ، بأسلوب حكيم ، شرع في تفسير رؤياهما ، طبعا بوحي من الله سبحانه .
فكانت البداية بالذي رأى نفسه يعصر خمرا ، فنبأه بخروجه من السجن ، و سيكون ساقي الملك ، بينما كان تفسير رؤيا الفتى الثاني الذي رأى الطير تأكل من رأسه ، بقتله و صلبه أي أنه سيقتل ثم يعلق فتأكل الطير من رأسه.
ثم طلب سيدنا يوسف من الذي اعتقد نجاته ، وعمله ساق للملك ، بإخبار سيده عن أمره . لكن الشيطان أنسى الناجي بذكر سيدنا يوسف للملك ، فلبث في السجن بضع سنين ، وقيل أنها سبع سنين .
تعليقات
إرسال تعليق