السرد ، الرؤية السردية ، وظائف السرد ، نموذج الرواية البوليسية الرهان الأخير .

السرد ، الرؤية السردية ، وظائف السرد ، نموذج من  الرواية البوليسية الرهان الأخير . 


السرد ، الرؤية السردية ، وظائف السرد ، نموذج من  الرواية البوليسية الرهان الأخير

السرد : La narration 

علم السرد أو السردانية Narratologie: 

هو ذلك النشاط الذي يقوم بدراسة الأشكال السردية : " قصة ، حكاية ، رواية... وغيرها". و هو نوع من الشعرية المقيدة ، المختص بالظاهرة الروائية وحدها : 

فأنساق التبئير " من يرى ؟ ، من يتكلم ؟ ، و نمذجة المونولوجات الداخلية مثلا ، هما : من اختصاص علم السرد ". برنار فاليط ، النص الروائي مناهج وتقنيات ، ط. الأولى 1999 .ص: 100.

من مميزات السرد أنه شفاف ، يشعرنا أن هذه الشخصيات حقيقية ، وواقعية ، بل موجودة بيننا . 

وذلك طبعا بسبب تواري السارد ، وقيامه بالسرد في نفس الوقت !. الشيء الذي يدفعنا إلى عدم " نسيان الراوي في معناه الحرفي ، ولكن في إطار قانون الخلق الروائي الذي يتضمن مفاهيمه ، و أفاقه الخاصة ، فالراوي لا ينسى في الحقيقة شيئا ".  حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي . ص : 261.

لأنه وبكل بساطة يتحكم إلى لحظة سردية تفرض عليه القيام بكل ما يمكن للإيهام بالواقع ، حتى لو اضطره ذلك إلى نسيان بعض الأشياء. 

الشيء الذي يقودنا بالضرورة  إلى الحديث عن :

وظائف السارد Les fonction de narrateur:

في السرديات يتم الحديث عن وظيفتين أساسيتين ينهض بهما السرد:

أ: وظيفة العرض : بمعنى أن السارد هو الذي يقوم بعرض الحكاية أمام القارئ المفترض ، ويخبر بالفعل الذي تقوم به الشخصية .

ب :  وظيفة المراقبة  Le fonction de controle:

يعني أن السارد هو الذي يتصرف في أجواء الحكاية وحيثياتها ، ويراقب الشخصيات ويتتبع أحوالها ، بل أكثر من ذلك يصدر أحكاما بشأنها .

ت : الوظيفة السردية Fonction narrative:

هذه الوظيفة يمكن أن تلخص في عبارة :" أنا أحكي ..." ، وهي وظيفة قد تكون صريحة ، وقد تفهم من خلال السياق .

عموما ، سواء كان السرد بضمير المتكلم ، أم بضمير الغائب ، فإن هناك الذي يحكي الحكاية دائما يتوجه إلينا ، ويخاطبنا .

وتظهر هذه الوظيفة في رواية الرهان الأخير ، من خلال أول جملة في النص ، "من بين عشرات المطاعم المنتشرة على شاطئ عين الذئاب ". الرواية البوليسية الرهان الأخير ، عبد الاله الحمدوشي . ص : 5 .

ج : وظيفة التوجيه : Fonction L’orientation

هذه الوظيفة يتدخل فيها السارد في كل لحظة للتعليق على عملية الحكي ، و هندسة العملية السردية .

د : وظيفة التواصل Fonction communicationnelle 

وتظهر من خلال سعي السارد إلى الحفاظ على الصلة الرابطة بينه وبين قارئه ، حفاظا على العملية التواصلية .

ويمكن إدراج هنا " كل علامات الاستفهام ، والتعجب ، و الحكم والأمثال ، والفقرات الفائرة الأسلوب والقوية السبك ". مقتطف من قنديل أم هاشم ، ص :23.

 مثاله : " من هو الضابط الواعر ؟ " . الرهان الاخير لعبد الاله الحمدوشي .ص: 19.

ه : وظيفة الشهادة : Fonction citationnelle

الشاهد في هذه الوظيفة يشهد ضمنيا ، و جاهدا في جعل القارئ مصدقا صحة الحكاية ، أي أنه يجعل القارئ موقنا بأن الشخصية حقيقية حتى وإن كانت وهمية .

وفي الرواية المدروسة " الرهان الأخير ، تظهر لنا هذه الوظيفة بشكل جلي  من خلال معرفة السارد الجيدة بالشخصية ، " قبل خمس سنوات ، كان الفقر هو أعظم مشكل في حياة عثمان ، أما الان فها هو يرتدي البذل الثمينة ، و يُسَيِّر مطعما راقيا ، ويسوق سيارة WBM اخر موديل ...". رواية الرهان الاخير لعبد الاله الحمدوشي ، ص : 6 .

" قبل لقائه بصوفيا ، كان يفكر في الحريك على متن قارب من قوارب الموت ، ولكن المال كان يعوزه ، لما التقى بصوفيا اعتبر أوروبا العجوز هي التي حركت إليه " .  نفس المرجع "الرهان الاخير .ص: 48.

"عانى من العطالة أربع سنوات ، و راودته مرارا فكرة الانتحار". المرجع المذكور اعلاه . ص : 48 .

و : الوظيفة الإيديولوجية Fonction Ideologique

هنا السارد لا يكتفي عادة بسرد الأحداث دون أن يتدخل فيها ، وهنا تبرز ثقافة السارد، و إديولوجيته في مدى قدرته على تكييف الأحداث بطريقة تعبر عن رؤيته للعالم وتعكس إيديولوجية ما .

كانت هذه هي وظائف السارد . وبالتأكيد لا يمكننا الحديث عن السارد دون أنواعه ، و التي تنقسم إلى نوعين :

السارد المشخص ، والسارد غير المشخص .

السارد المشخص هو : 

    *  سارد من البداية إلى النهاية بضمير الغائب.

    *  لا يكون له دور في الرواية .

    *  لا نعرف مصدر معلوماته ، و لا حتى من أين جاءته الأخبار!

     *  يعرف ما يجول بخاطر الشخصية ، وبماذا تفكر ، والحوارات الداخلية. 

     *    ينتقل عبر الأمكنة والأزمنة .

     *  كلي المعرفة omniscient: يعرف كل شيء في كل وقت وكل مكان .

    *  كلي الحضور omnipresent: حاضر في كل مكان وكل زمان .

    *   كلي القدرة omnipotent.

السارد غير المشخص :

      * هو الذي يتولى سرد الأحداث من البداية إلى النهاية .

       * يكشف عن ذاتيته بنفسه ، عكس غير المشخص.

         *نعرف مصدر معلوماته ، و من أين استقاها.

       * يعرف  عن الشخصية أقل من غيره ، أو هي نفس المعرفة التي تعرفها الشخصية عن نفسها .

هذا الفرق بين السارد المشخص ، وغير المشخص  ، يدفعنا للتساؤل عن المنظور الذي تقدم به القصة في الرواية ؟ ، هل تقدم من منظور السارد المشخص ، أم من منظور السارد غير المشخص ، وبأي طريقة يدرك السارد القصة  ، هل من جهة نظر السارد المشخص أو غير المشخص ؟ 

للإجابة عن هذه التساؤلات ، لابد من دراسة الرؤية السردية :

الرؤية السردية La vision narrative 

الرؤية السردية ، لقد عُرِف هذا المكون بعدة تسميات ، منذ تم استخدامه في الخطاب السردي ، من بينها :

التبئير Focalization ، وجهة نظر ، point de vie ، الرؤية ، البؤرة ، حصر المجال ، المنظور ...

والرؤية السردية ، كما عرفها "عبد الكبير الداديسي" في قراءة المؤلفات ص: 35 

 " مسألة تقنية ، و مظهر للحكي يستخدمه السارد لحكي قصته ، بالطريقة التي يراها تخدم أهدافه ، و تؤثر في المتلقي . فالسارد هو الذي يقوم بعملية السرد ، و يتحكم في خيوط اللعبة السردية ، و المسؤول عن توزيع مكونات النص من حوارات ، وأزمنة ، و أمانة ، وأوصاف (...) ، إنه من يبلغ الحكاية للمتلقي بدلا عن الكاتب ".  

وحتى لانغرق في التنظير الذي تعج به الكتب المهتمة بالأعمال السردية ، سنحاول التوجه مباشرة لما هو عملي تطبيقي ، وقبل ذلك لابد من إبراز مميزات كل رؤية عن الأخرى حسب كل من :

تودوروف : 

حيث يرى أن الرؤية السردية  ثلاث أنواع :

الرؤية الخلفية : السارد يعرف أكثر من الشخصية .

الرؤية المشاركة : معرفة السارد تساوي معرفة الشخصيات .

الرؤية الخارجية : السارد يعرف أقل من الشخصيات .

جيرار جونيت:

الرؤية الخلفية : التبئير في الدرجة الصفر .

الرؤية المشاركة : التبئير الداخلي .

الرؤية الخارجية : التبئير الخارجي .

1: الرؤية الخلفية La vision par derrier (السارد > الشخصية ). 

يعكس هذا الوضع السارد العارف بكل شيء ، والذي يقتحم العالم الروائي : 

" فيحرك الأشخاص ، ويخترق جدران البيوت ، ويرى من خلالها جماجم الشخصيات ، ويرسم الأفكار ، و يجيب عن الأسئلة ، و يبدد الشكوك ، إنه المالك للمعرفة المطلقة " مصطفى المويقن ، تشكل المكونات الروائية . ط : الاولى ، ص: 122.

وبالتالي ، يقول مالا تجرؤ الشخصيات على قوله عن ذاتها ، وتتخذ هذه الرؤية عدة مظاهر من ضمنها : استعمال ضمير الغيبة ، وإصدار الأحكام ، وتوجيه الاحداث ، وتنظيم الحوارات ...

الرؤية المشاركة أو مع :La vision Avec ( السارد = الشخصية).

" في هذه الحالة يعرف السارد بقدر ما تعرف الشخصية الروائية ، و لا يستطيع أن يمدها بتفسير للأحداث قبل أن تتوصل إليها الشخصيات الروائية ". طرائق تحليل السرد الأدبي .

هنا ايضا تقوم الشخصية بتقديم نفسها عن طريق العرض ، أو جرد الحوار الداخلي ، بضمير المتكلم المفرد ، أو بضمير الغائب ، وهذا يتماشى دائما والرؤية التي تكونها نفس الشخصية عن نفسها .

3: الرؤية الخارجية La vision du dehors ( السارد < الشخصية ).

في هذه الحالة يكتفي السارد بوصف ما يرى و يسمع دون أن يصل إلى مستوى وعي أي شخصية .

فالسارد هنا ، جاهل لكثير من الأشياء ، وبعيد معرفيا عما يجول بالعالم الروائي ‏من أحداث ‏. إذ يظل القارئ متسائلا إلى أن يأتي الحل والجواب على لسان الشخصية ، أو من عندها جميعا. وبهذا يكون ‏الحكي وموضوعيا ، إذ يكتفي ‏السارد بتسجيل المظاهرالخارجية للشخصيات فقط .

‏وتتميز وهذه التقنية بالحياد  التام . كما تعتبر نادرة  في تاريخ السرد الادبي .

وبالعودة إلى رواية الرهان الأخيرالمدروسة ، نجد أنها قد بنيت على شخصية محورية ، يتخذها السارد مركزا لتقديم أحداث الرواية . من خلال السارد الذي  يقدم لنا الاحداث من الخارج أي الرؤية الخارجية .

حيث يقوم بتأطير الزمان والمكان ، و بداية تشكل الاحداث ، وهذا مايظهر لنا من السطور الأولى في الرواية .

"من بين عشرات المطاعم المنتشرة على شاطئ عين الذئاب ، كان مطعم صوفيا ، هو الوحيد الذي يتمتع بالبساطة ، والفخامة في نفس الوقت ، كما لو أنه متأثر بشخصية المرأة التي أنشأته . " الرواية الرهان الأخيرعبد الاله الحمدوشي . ص : 5 .

من خلال هذا المقطع الذي تبتدئ به الرواية ، نجد أن السارد يضطلع بالسرد من الخلف ، ( حيث السارد من رؤية الشخصية ) ، كونه يؤطر المكان من الخارج . وعند مواصلة القراءة سيتضح ، ويتأكد أنها فعلا رؤية خلفية ، حيث السارد كلي الحضور ، و المعرفة .

من أمثلة ذلك :

" كان يعلم أن تحت هذا الهدوء تخفي عدم رضاها ." ص: 15.

 " لو أخلفت وعدها هذه الليلة ، فسيجن ... لم يسبق له أن شعر بالوحدة كما يشعر بها الان " الرواية ص : 15.

" اختنقت عيناه بالدموع من جديد ، وضع يده على رأسه ومسد بعنف على شاربه ، فأعطى انطباعا وكأنه يعيش كابوسا ، تأمله الضابط محاولا أن يستشعر ما يشعر به ." ص : 30 من نفس الرواية .

" أحرج عثمان طأطأ رأسه  ، وتمنى أن لا يسير الاستجواب في هذا الاتجاه ، عكس رغبته كانت هذه النقطة شهية جدا ، بالنسبة للضابط " ص: 33 .

فالرؤية السردية ، كما تؤكد الامثلة هي رؤية خلفية ، حيث يستمر السارد في الحكي بضمير الغائب ، سواء تعلق الامر بالشخصية المحورية ، أو تبئير عالم الرواية وأحداثها ، و شخصياتها .

فالروائي اعتمد في قصته على سارد غير مشخص ، تبنى موقع الرؤية الخلفية ، و الذي يؤكد ذلك ، حكي السارد الاحداث من البداية إلى النهاية ، كما أن السارد مبهم ، لم يكشف عن هويته ، من هو ؟ ، و لا مصدر معلوماته ،  ولا حتى عن مصدر صفاته الخارقة للمعنى . مما يطرح السؤال المحير الذي يراود كل قارئ ، هل السارد يستريح ؟؟!!.

لتكن الإجابة ، نعم يستريح . عندما يترك لإحدى الشخصيات أن تنوب عنه ، في الحوارات مثلا .

 هذا في ما يتعلق بعلاقة السارد بالقصة . أما في علاقته بالمؤلف ، فلا ريب أن الفرق بينهما بيِّن و شاسع .

فالسارد هو علامة لسانية ، شخصية ورقية ، تموت بمجرد الفراغ منها ، ثم تبعث حية عند الحديث عنه في النقد أو المقالات .... بمعنى اخر السارد ينتمي إلى مستوى نصي .

في حين أن المؤلف ينتمي إلى مستوى خارج النصي ، هو الذي يعقد عقدة النشر مع الناشر ، هو تلك الشخصية التي تعيش بيننا في المجتمع ، و الشخص الذي يكتب اسمه على ظهر غلاف الرواية " عبد الإله الحمدوشي "، في رواية الرهان الأخير مثلا .

تعليقات