قراءة في المتن الرشدي .
لقد اعتبرت المدارس الفلسفية إبان النهضة الأوروبية ، "ابن رشد " ، بمثابة الشارح الأكبر لأريسطو .
بينما نجد بعض المفكرين يعتبرونه "فيلسوف التوفيق بين العقل و النقل" . مميزين في ذلك بين ما هو من تأليفه الخاص " تهافت التهافت " ، وفصل المقال ، و الكشف عن مناهج الأدلة .
وبين ما يشرح و يردد فيه "ابن رشد" آراء الاخرين ، خصوصا اراء "أريسطو" . فضلا عن اعتباره الفقيه الأكبر للدولة الموحدية .
هذه الصور المتعددة لا يمكنها ان تكشف لنا عن حقيقة "ابن رشد "، وعن مكانته داخل تاريخ الفلسفة ، دون إعادة النظر في أعماله ، ومحاولة الكشف عن أهم المراحل الفكرية التي مر منها "ابن رشد " ، في إطار التطور الفكري ، حتى نصل في الأخير إلى المؤلفات التي تستحق بالفعل اعتبارها الممثل الحقيقي للرشدية ، كونها تمثل الآراء الفعلية لابن رشد ، في كثير من القضايا الفكرية والفلسفية.
مما يعني أن معرفة "ابن رشد"، الحقيقي تتطلب منا الحديث عن أنماط الكتابة الرشدية ، في إطار وحدة المشروع الرشدي . والتي تتجلى في :
المختصرات :
هي كتب ذات طابع تعليمي ، اختصر فيها ابن رشد ، بعض أمهات الكتب القديمة ، والتي تغطي أربعة مباحث ، من حيث المصدر والانتماء والتقاليد الثقافية المنتمية إليها .
وهي على التوالي : المنطق ، علم النفس ، علم الفلك ، أصول الفقه .
اذا تعتبر المختصرات باكورة أعمال "ابن رشد " ، حيث اختصر فيها لباطليموس ، و الغزالي ، والفارابي .
غير أن أهم ما يمكن التذكير به هنا ، غياب تام للأريسطية ، في المباحث الأربعة ، باستثناء مختصر "النفس" ، التي تشكل فيه سيكولوجيا أريسطو مصدرا بين المصادر المتعددة .
ويمكن الوقوف عندالمختصرات على مسألتين :
أولهما : أن "ابن رشد" لم يكن أريسطيا منذ البداية ، وهذا ما أكدته عدة دراسات التي أكدت أنه لم يكتب حرفا واحدا ، قبل إعلانه انتمائه لأريسطو .
فالمؤلفات الأولى لابن رشد ، كان فيها "أريسطو " ، مجرد ملهم لابن رشد ، كباقي الملهمين الاخرين ، كالفارابي ، و ابن سينا ، و الغزالي ، و باطليموس ، ... وفي نفس منزلتهم .
مما يخول لنا الحديث عن مشروعين فكريين لابن رشد :
المشروع الأول : تشكله الكتابات المحايدة ، التي لم يكن ينتصر فيها "ابن رشد" لمذهب معين .
المشروع الثاني : ينتصر فيه ابن رشد للمذهب الأريسطي علنا ، ويصرح فيه بالانتصار لأريسطو باعتباره أشد إقناعًا ، و أثبت حجة .
اذن : في المشروع الأول كان يهدف إلى إنقاذ الضروري من المعرفة الإنسانية ، كحد أدنى لتحقيق الكمال الإنساني . حيث تجتمع كتابات ابن رشد على هدف واحد ، يتمثل في إنقاذ ماهو ضروري في المعرفة العلمية لتحقيق الكمال الإنساني .
كما تطمح إلى أن تقدم الحد الأدنى ، من المعرفة و الضروري منها في صياغة جديدة لا يجوز للإنسان كإنسان التملص منها ، لتحقيق "كماله الأول" ، وليس الأخير الذي يعد مطمحا بعيد التحقيق . في هذا العصر "عصر ابن رشد " .
ويمكن إرجاع السبب في تواضع مشروع ابن رشد ، في بدايته الاولى إلى سببين :
قراءة مزدوجة لابن رشد التي اتخذت مسارين مختلفي المنطلق ، لكنهما ينتهيان إلى قناعة واحدة . ويمكن تلخيصهما في :
من جهة القراءة ، للشروط التاريخية الراهنة المعروفة علميا في المجتمع الأندلسي.
ومن جهة ثانية ؛ قراءة لتاريخ الفلسفة ، دون أن تكون هذه القراءة منحصرة فيما عرفه تاريخ الإسلام من مذاهب فلسفية ، بل ربما كانت عنايتها متجهة إلى الفلسفة القديمة باعتبارها الأصل الأول لكل فلسفة ممكنة .
ولا يفوتنا أن نقول أن القراءتين متداخلتين ، أي كل واحدة منهما ، تؤدي بالضرورة إلى الأخرى لتلتقيا في نقطة واحدة ، هي الإعلان عن حكم غريب ، يتمثل في نفي كل إمكانية لقيام إبداع فلسفي في هذا العصر .
مع التأكيد أن كلمة فلسفة تستعمل هنا بمعناها الواسع والشامل ، لننتهي الى أن عصر ابن رشد لا يحتمل و يقبل إلا ما هو قروي ، أما الأفضل فتسير حصوله .
الجوامع :
هي شروح مركزة و دقيقة ، ذات طابع انتقائي ، ويمكن التمييز فيما بينها بين صياغتين :
الاولى كونها لا تجعل من الجوامع بيانا أريسطيا ، ولا انتصارا لأريسطو ، كما أنها لا تختلف كثيرا عما صدَّر به مختصراته السابقة .
وبهذا يصح القول أنها لا تختلف عن روح المختصرات ، مما يسمح للصياغة الأولى أن تدخل ضمن الكتب المعبرة عن المشروع الفلسفي الأول لابن رشد . " مشروع إنقاذ الضروري من المعرفة العلمية ".
وبالتالي فإن أريسطو لا يختلف في منزلته عن أبطال مختصراته الأولى " الغزالي " و الفارابي و باطليموس ... الخ على اعتبار أنه واحد ممن يجب الاعتماد عليهم في إنقاذ الضروري من المعرفة العلمية لحصول الكمال الإنساني .
والذي يبرر هذا الأمر حضورا ثريا في الجوامع للإسكندر ، و الأفرودوسي ، و ابن باجة و الفارابي ، من الإسلاميين .
علاوة على جوامع ما بعد الطبيعة ، التي تشمل مواقف تكاد تقترب من الميتافيزيقا .
الصياغة الثانية : هي التي تنتقل بنا فعلا للإعلان عن أريسطية ابن رشد ، واختياره للمذهب الاريسطي . و العمل عليه ، باعتباره أرقى النماذج الفلسفية الممكنة .
وهكذا فالجوامع عبارة عن عرض مختصر لطبيعيات أريسطو ، وللفلسفة الأولى التي يروم من خلالها إخراج المبحثين معا مخرجا برهانيا . أي نقلهما من مجالهما الحيوي "مجال الحوار ، والجدال والنقد الذي يشكل روح النص الأريسطي ، إلى مجال يصبحا فيه قولا برهانيا . وذلك من خلال استخلاص أقاويل أريسطو الخالصة دون ما اختلط بها من تأويلات جدلية وآراء الفلاسفة الاخرين .
وهكذا يكون ابن رشد قد خلص الأريسطية مما علق بها من أقاويل أخرى . وهذه أهم ماقام به ابن رشد في تاريخ الفلسفة.
التلاخيص :
التلاخيص ، جمع لكلمة تلخيص العربية ، أي الشرح ، والتدقيق، والاستقصاء ، من جهة ، والتقريب والاختصار والايجاز من جهة ثانية .
كما تعني كلمة تلخيص الشيء أي تخليصه من الشوائب ، وهكذا فهي تروم إلى رفع القلق والغموض في الأريسطية . أي تخليص الأريسطية من الشوائب الأفلاطونية التي طالتها والتصقت بها في تاريخ الفلسفة.
وهكذا يمكننا اعتبار التلاخيص امتدادا متطورا للجوامع . ومرتبطة أشد الارتباط بها ،
وأرقى فلسفة ممكنة وخاتمة النماذج .
المؤلفات الموضوعة :
المؤلفات الموضوعة ، هي تلك التي لا يشرح فيها ابن رشد مؤلفات اخرى ، وهي كتاب الكليات في الطب ، و بداية المجتهد ونهاية المقتصد في اصول الفقه ، و الثلاثية الشهيرة وفصل المقال والتقرير بين الحكمة والشريعة عن الاتصال والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة و تهافت التهافت.
والهدف من تأليف الكليات في الطب ، و بداية المجتهد عند ابن رشد ، رغم اختلاف موضوعهما ، هو اختصار شديد ، ووضع دساتير للقول الطبي والفقهي.
فالكليات في الطب يروم من خلالها إلى تصحيح القول الطبي وفق الأصول الطبيعية ومحددات القول العلمي وفقا للمنطق.
بينما كتاب بداية المجتهد ، فالهدف منه رفع مستوى القول الفقهي، بالنظر إلى الجزئيات.
أما بالنسبة للثلاثية الشهيرة ، فإن أهم ما يمكن الوقوف عليه ، هما أمرين اثنين :
أولهما ، لا يمكن اعتبارها أمرًا زائدا في الثرات الفلسفي لابن رشد.
ثانيهما ، أنها ليست التعبير الأصيل للرشدية . كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين الذين اعتبروا أن التلاخيص والشروح مجرد تقليد ابن رشد للسابقين عليه . وليست إبداعًا خاصا بهذاالفيلسوف .
غير أن الأبحاث المعاصرة عن ابن رشد ، سعت إلى دمج هذه الثلاثية ضمن المتن الرشدي ، باعتبارها حلقة وسطى بين مشروعين متمايزين في الفكر .
المشروع الاول ،الذي تحدثنا عنه سابقا ، والمشروع الثاني الذي يمثل الرشدية الحقيقية ، ذلك الذي تمثله الشروح الكبرى على سنة نصوص أريسطو .
ويمكن أن نسمي الحلقة الوسطى ، كما يقول "جمال الدين العلوي"، في كتابه المتن الرشدي : الفاصل الغزالي . حيث فصل المقال يهم مباحث ثلاثة :
أولها اتخذ شكل فتوى بوجوب النص شرعا ، في القياس البرهاني .
وفي المبحث الثاني ، يعول فيها على حجة "أبي حامد" في مسألة خالق الإجماع.
أما المبحث الثالث ، فيعرض أصناف الناس ومراتب الأقاويل والطرق المصرح بها في الشريعة .
وفي إطار الحديث عن تصور الفكر الرشدي . يمكن اعتبار فصل المقال بمثابة ، وعي ابن رشد للظاهرة الغزالية ، وما تشكله من خطر على الشريعة والفلسفة .
أما الكشف عن مناهج الأدلة ، فإنه وإن كان ردا على تأويلات المتكلمين ، وبيانا لطرق الشرع في تعليم الجمهور ، فإنه بمثابة وعي بالظاهرة الغزالية ، وما تشكله من خطر على الفلسفة .
مما تسببه من اختلاط واضطراب في عقائد الملة ، وبعد عن الطرق الشرعية في التعليم .
تعليقات
إرسال تعليق